الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
ثم يستطرد مع {فريق في الجنة وفريق في السعير}.. فقوله ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة. ولكن مشيئته اقتضت بما له من علم وحكمة أن {يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير}.. ويقرر أن الله وحده هو الولي {وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير}..ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى، حقيقة الوحي والرسالة، فيقرر أن الحكم فيما يختلف فيه البشر من شيء هو الله الذي أنزل هذا القرآن ليرجع إليه الناس في كل اختلاف: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب}..ويستطرد مع الربوبية إلى وحدانية الخالق، وتفرد ذاته. ووحدانية المتصرف في مقادير السماوات والأرض، وفي بسط الرزق وقبضه. وفي علمه بكل شيء: {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم}..ثم يعود إلى الحقيقة الأولى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب...} إلخ.وعلى مثل هذا النسق تمضي السورة في عرض هذه الحقيقة؛ محوطة بمثل هذا الجو، وهذه الاستطرادات المتعلقة بقضايا العقيدة الأخرى، المثبتة في الوقت ذاته للحقيقة الأولى التي تبدو كأنها موضوع السورة الرئيسي.وهذا النسق واضح وضوحاً كاملاً في هذا الدرس الأول من السورة. فالقارئ يلتقي بعد كل بعض آيات بحقيقة الوحي والرسالة في جانب من جوانبها.فأما الدرس الثاني ويؤلف بقية السورة، فيبدأ باستعراض بعض آيات الله في بسط الرزق وقبضه؛ وفي تنزيل الغيث برحمته؛ وفي خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة؛ وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام. ويستطرد من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تفردهم وتميز جماعتهم. فإلى مشهد من مشاهد القيامة يعرض صورة الظالمين لما رأوا العذاب: {يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} واستعلاء المؤمنين يومئذ ووقوفهم موقف المقرر لحال الظالمين:{وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم}وفي ظل هذا المشهد يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف قبل فوات الأوان: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير} ومن ثم يعود إلى الحقيقة الأولى في السورة. حقيقة الوحي والرسالة. في جانب من جوانبها: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ..} ويمضي سياق السورة حتى ختامها يدور حول هذا المحور مباشرة أو غير مباشرة، مع طابع الاستطراد بين كل إشارة وإشارة إلى تلك الحقيقة، حتى يكون ختام السورة هذا البيان في شأن الوحي والرسالة: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} وبعد فمن وراء التركيز على حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله يبرز هدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع.هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشرين ممثلة في الرسالة الأخيرة، ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم.وتبدأ أول إشارة مع مطلع السورة {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم}.. لتقرر أن الله هو الموحي بجميع الرسالات لجميع الرسل، وأن الرسالة الأخيرة هي امتداد لأمر مقرر مطرد من قديم.وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها}.. لتقرر مركز القيادة الجديدة التي سترد الإشارة إليها فيما بعد.وفي الإشارة الثالثة يقرر وحدة الرسالة بعد ما قرر في الإشارة الأولى وحدة المصدر: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}..وتستطرد هذه الإشارة إلى تقرير أن التفرق قد وقع، مخالفاً لهذه التوصية، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ولكن عن علم. وقع بغيا وظلما وحسدا: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم}..ثم تستطرد كذلك إلى بيان حال الذين جاءوا من بعد أولئك الذين اختلفوا: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب}..وعند هذا الحد يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم.. فرسالة السماء التي تقود البشرية قد آلت إلى اختلاف بين أتباعها.والذين جاءوا من بعدهم تلقوها في ريبة وفي شك لا تستقيم معهما قيادة راشدة.ومن ثم يعلن انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها صلى الله عليه وسلم لهذه القيادة: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم...} إلخ.. ومن ثم تجيء صفة الجماعة المؤمنة المميزة لها طبيعية في سياق هذه السورة في الدرس الثاني بوصفها الجماعة التي ستقوم على قيادة هذه البشرية على ذلك النهج الثابت القويم.وعلى ضوء هذه الحقيقة يصبح سياق السورة وموضوعها الرئيسي والموضوعات الأخرى فيه واضحة القصد والاتجاه. وتتبع هذا السياق بالتفصيل يزيد هذا الأمر وضوحا..{حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل}..سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور بما فيه الكفاية. وهي تذكر هنا في مطلع السورة، ويليها قوله تعالى:{كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم}..أي مثل ذلك، وعلى هذا النسق، وبهذه الطريقة يكون الوحي إليك وإلى الذين من قبلك. فهو كلمات وألفاظ وعبارات مصوغة من الأحرف التي يعرفها الناس ويفهمونها ويدركون معانيها؛ ولكنهم لا يملكون أن يصوغوا مثلها مما بين أيديهم من أحرف يعرفونها.ومن الناحية الأخرى تتقرر وحدة الوحي. وحدة مصدره فالموحي هو الله العزيز الحكيم. والموحى إليهم هم الرسل على مدار الزمان. والوحي واحد في جوهره على اختلاف الرسل واختلاف الزمان: {إليك وإلى الذين من قبلك}..إنها قصة بعيدة البداية، ضاربة في أطواء الزمان. وسلسلة كثيرة الحلقات، متشابكة الحلقات. ومنهج ثابت الأصول على تعدد الفروع.وهذه الحقيقة على هذا النحو حين تستقر في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته، ووحدة مصدره وطريقه. وتشدهم إلى مصدر هذا الوحي: {الله العزيز الحكيم}.. كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي في كل زمان ومكان، فهذه أسرتهم تضرب في بطون التاريخ، وتمتد جذورها في شعاب الزمن؛ وتتصل كلها بالله في النهاية. فيلتقون فيه جميعا. وهو {العزيز} القوي القادر {الحكيم} الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء وفق حكمة وتدبير. فأنى يصرفون عن هذا المنهج الإلهي الواحد الثابت إلى السبل المتفرقة التي لا تؤدي إلى الله؛ ولا يعرف لها مصدر، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟ويستطرد في صفة الله الذي يوحي وحده إلى الرسل جميعا؛ فيقرر أنه المالك الوحيد لما في السماوات وما في الأرض، وأنه وحده العلي العظيم:{له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم}.وكثيراً ما يُخدع البشر فيحسبون أنهم يملكون شيئاً، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم، مسخرة لهم، ينتفعون بها، ويستخدمونها فيما يشاءون. ولكن هذا ليس ملكاً حقيقياً. إنما الملك الحقيقي لله؛ الذي يوجد ويعدم، ويحيي ويميت؛ ويملك أن يعطي البشر ما يشاء، ويحرمهم ما يشاء؛ وأن يذهب بما في أيديهم من شيء، وأن يضع في أيديهم بدلاً مما أذهب.. الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء، ويصرفها وفق الناموس المختار، فتلبي وتطيع وتتصرف وفق ذلك الناموس. وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء لله بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه.. {وهو العلي العظيم}.. فليس هو الملك فحسب، ولكنه ملك العلو والعظمة على وجه التفرد كذلك. العلو الذي كل شيء بالقياس إليه سفول؛ والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة!ومتى استقرت هذه الحقيقة استقراراً صادقاً في الضمائر، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب. فكل ما في السماوات وما في الأرض لله. والمالك هو الذي بيده العطاء. ثم إنه هو {العلي العظيم} الذي لا يصغر ولا يسفل من يمد يده إليه بالسؤال؛ كما لو مدها للمخاليق، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء.ثم يعرض مظهراً لخلوص الملكية لله في الكون، وللعلو والعظمة كذلك. يتمثل في حركة السماوات تكاد تتفطر من روعة العظمة التي تستشعرها لربها، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها. كما يتمثل في حركة الملائكة يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لأهل الأرض من انحرافهم وتطاولهم:{تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم}..والسماوات هي هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا حيثما كنا على ظهر هذه الأرض، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير. وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مئة ألف مليون مجموعة من الشموس. في كل منها نحو مئة ألف مليون شمس كشمسنا هذه، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا نحن البشر أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة، متناثرة في فضاء السماء مبعثرة، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين من السنوات الضوئية. أي المحسوبة بسرعة الضوء، التي تبلغ 168. 000 ميل في الثانية!هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطرن من فوقهن.. من خشية الله وعظمته وعلوه، وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسها ضمير الكون، فيرتعش، وينتفض، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه!{والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض}.والملائكة أهل طاعة مطلقة، فقد كانوا أولى الخلق بالطمأنينة. ولكنهم دائبون في تسبيح ربهم، لما يحسون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته. ذلك بينما أهل الأرض المقصرون الضعاف ينكرون وينحرفون؛ فيشفق الملائكة من غضب الله؛ ويروحون يستغفرون لأهل الأرض مما يقع في الأرض من معصية وتقصير. ويجوز أن يكون المقصود هو استغفار الملائكة للذين آمنوا، كالذي جاء في سورة غافر: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} وفي هذه الحالة يبدو: كم يشفق الملائكة من أية معصية تقع في الأرض، حتى من الذين آمنوا، وكم يرتاعون لها، فيستغفرون ربهم وهم يسبحون بحمده استشعاراً لعلوه وعظمته؛ واستهوالاً لأية معصية تقع في ملكه؛ واستدرارا لمغفرته ورحمته؛ وطمعاً فيهما:{ألا إن الله هو الغفور الرحيم}..فيجمع إلى العزة والحكمة، العلو والعظمة، ثم المغفرة والرحمة.. ويعرف العباد ربهم بشتى صفاته.وفي نهاية الفقرة بعد تقرير تلك الصفات وأثرها في الكون كله يعرض للذين يتخذون من دون الله أولياء. وقد بدا أن ليس في الكون غيره من ولي. ليعفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمرهم فما هو عليهم بوكيل، والله هو الحفيظ عليهم، وهو بهم كفيل:{والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل}..وتبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء؛ وهم يتخذون من دون الله أولياء؛ وأيديهم مما أمسكت خاوية، وليس هنالك إلا الهباء! تبدو للضمير في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله. والله حفيظ عليهم. وهم في قبضته ضعاف صغار. فأما النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فهم معفون من التفكير في شأنهم، والاحتفال بأمرهم، فقد كفاهم الله هذا الاهتمام.ولا بد أن تستقر هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال. سواء كان أولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء أصحاب سلطان ظاهر في الأرض، أم كانوا من غير ذوي السلطان. تطمئن في الحالة الأولى لهوان شأن أصحاب السلطان الظاهر مهما تجبروا ما داموا لا يستمدون سلطانهم هذا من الله؛ والله حفيظ عليهم؛ وهو من ورائهم محيط؛ والكون كله مؤمن بربه من حولهم، وهم وحدهم المنحرفون كالنغمة النشاز في اللحن المتناسق! وتطمئن في الحالة الثانية من ناحية أن ليس على المؤمنين من وزر في تولي هؤلاء غير الله؛ فهم ليسوا بوكلاء على من ينحرفون من الخلق؛ وليس عليهم إلا النصح والبلاغ. والله هو الحفيظ على قلوب العباد.ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم. مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله.وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق. كائنا ما يكون هذا الانحراف..ثم يعود إلى الحقيقة الأولى:{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير}..
|